لا يمكن الكاتب اليساري الأميركي نعوم تشومسكي أن يحضر في مكان من دون ان يحدث صخباً. فأراؤه، الناهضة على خلفية ثقافية شاملة وعميقة بأوضاع المنطقة، غالباً ما ترمي حجراً في المياه الراكدة. وبوصفه يسارياً أميركياً مطلعاً على بنى المنطقة الإجتماعية - الإقتصادية، وعلى تاريخها، وعلى تفاعلاتها الداخلية وعلاقة الغرب بها، فإن لأرائه أهمية إستثنائية تكاد تفوق أهمية غيره من الباحثين والأكاديميين.
على ان الهمّ التغييري لتشومسكي، وإنحيازه للحراك الإجتماعي وخوفه عليه في آن، يظهر في كل كلمة يدلي بها. يعتبر الثمانيني أن النماذج الإجتماعية التي سادت قبيل "الربيع العربي" لم تتعرض للمس بعد، على الرغم من الإنجازات الكبيرة المحققة على مستوى حرية التعبير والتجمع والتنظيم. وبرأيه أن الغرب، وأميركا تحديداً، يقبلان بتغيير النخب الحاكمة، لكنهما يرفضان كلياً أي تغيير على مستوى النظام الإقتصادي – الإجتماعي. كما يعتقد ان الحواجز أمام التغيير الإجتماعي – الإقتصادي في لبنان ستتعزز بفعل تدخل أطراف لبنانيين في سوريا، حزب الله خصوصاً.
لبنان
"المدن" إلتقت تشومسكي خلال زيارته إلى بيروت، وأجرت معه الحوار الآتي:
• إنطلق "الربيع العربي" من تونس ومصر وبعدها إنتشرت العدوى في كل مكان. بعد عامين ونيّف ما الذي تغيّر في النماذج الإجتماعية التي كانت سائدة في هذين البلدين؟ ولماذا لم نرَ نموذجاً للتنمية في وجه النموذج النيوليبرالي السائد؟
- لا شك في ان البلدين شهدا تغيّرات ملحوظة. صار فيهما درجة أعلى من حرية التعبير ومن حرية الصحافة، ومن حرية التنظيم والتجمع أيضاً. بات هناك حرية أعلى للتنظيمات النقابية والعمالية المستقلة التي كانت تخضع إلى حد كبير للدولة. لكن، وكما هو معلوم، القوة الوحيدة التي أتيح لها ان تنظّم نفسها إبان الديكتاتورية كانت "الإخوان المسلمون". لذا، بعد سقوط الديكتاتور ساعدت القدرات التنظيمية للإخوان في تأمين سيطرتهم على النظام السياسي. لكن هذه القوة لم تخاطب المشاكل الإجتماعية التي قامت الإنتفاضات في وجهها. حافظ الإخوان على السياسات النيوليبرالية التي كانت قائمة، مثبتين بذلك أنهم عاجزون عن تلبية المطالب الأساسية الكائنة خلف التحركات. وهي سياسة يقبل بها الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً. أي تغيير النخبة الحاكمة دون المساس بالديكتاتورية والنظام النيوليبرالي.
في الواقع، الإنتفاضة في كلّ من تونس ومصر كانت عبارة عن إنتفاضتين في آن. الإنتفاضة الأولى إستهدفت الديكتاتور والثانية النظام النيوليبرالي. وكما أسلفت، الأولى مقبولة من الغرب، لكن تغيير النظام الإقتصادي – الإجتماعي هو المهمة الأصعب، والغرب لن يقبل بها بسهولة. ليس سهلاً على الغرب أن يقبل ديموقراطية فعّالة. وهو عكس ما يسوّق في الإعلام. الغرب يريد تغيير الأسماء، شرط ألّا يتغير شيء على مستوى البنية الإجتماعية. وهناك أمثلة عدة يمكن ان تضرب حول هذا الدور (أندونيسيا، الكونغو، أميركا اللاتينية قبل التغييرات الأخيرة الخ..). عندما يفقد الديكتاتور السيطرة وينقلب عليه العسكر وطبقة رجال الأعمال لا يعود ممكناً تثبيت النظام القديم بلا تغيير الديكتاتور. فقد دعمت أميركا بن علي وحسنى مبارك حتى اللحظة التي لم يعد ممكناً فيها بقائهما. لكن، عندما انتقل التغيير إلى مستوى النظام الإجتماعي هنا ظهرت الصعوبات. بيد ان ذلك كلّه لا يعني ان الإنتفاضات لا تستطيع النجاح في تحقيق أهدافها. وههنا، تجدر الإشارة إلى المثال الذي شكلته أميركا اللاتينية حيث فقدت أميركا السيطرة عليها. فلو سُئِلتُ قبل عشرين عاماً عمّا إذا كان ذلك سيتحقق لا أعرف ما إذا كنت سأتوقع ذلك.
* لماذا لا تمتلك البدائل التي سادت، بعيد نجاح الإنتفاضتين في الإطاحة بكل من بن علي ومبارك، نظرة إقتصادية – إجتماعية خارج إطار البرنامج النيو ليبرالي القائم؟
* لماذا لا تمتلك البدائل التي سادت، بعيد نجاح الإنتفاضتين في الإطاحة بكل من بن علي ومبارك، نظرة إقتصادية – إجتماعية خارج إطار البرنامج النيو ليبرالي القائم؟
- كان المطلوب الحفاظ على النماذج الإقتصادية الإجتماعية عينها بعد إسقاط بن علي ومبارك. غادر الديكتاتور عندما تغيّر الموقف الشعبي، وعندما تخلت عنه طبقتا العسكر ورجال الأعمال. وعندما نجحت القوى الإسلامية في الفوز بالسلطة في كل من تونس ومصر كان جلياً ان المسألة الإقتصادية لا تلقى إهتماماً جدياً لديها. غير ان البديل الإسلامي مهم جداً بالنسبة للغرب. فهو يشكّل الحاجز الأول أمام تطوير "وطنية علمانية" في ضفة المعارضة. طبعاً، ظهرت إقتراحات إجتماعية، ونظّمت إحتجاجات وتحركات ذات طابع معيشي، ولكن وضعها في التطبيق بصورة شاملة يقتضي طرح المسألة الطبقية وهو ما سيهدّد مصالح القوى الإمبريالية. وهذا ما حصل في أميركا اللاتينية. إذ للمرة الأولى منذ 500 عام صارت أميركا اللاتينية مستقلة عن الغرب وأميركا. كان الوضع سابقاً يتسم بتركّز كبير للثروة في أيدي القلة، وبإحتكار للسلطة من قبل نخب ضعيفة التمثيل، وبإنقسام واسع على مستوى بلدان القارة، اليوم تغير الوضع وباتت بلدان القارة تتجه أكثر نحو مزيد من الإندماج مع بعضها بعضاً. وصار الحكّام يتوجهون لمشاكلهم الداخلية محاولين حلّها. بالنسبة للعالم العربي فهو منقسم وأنظمته فاسدة، فضلاً عن ان الحكّام لا يولون أهمية تذكر للمشاكل الداخلية. وكلّما ظهرت حكومة ستخاطب مشاكل شعبها ومشاكل الإقليم كان الغرب يقوم بالإطاحة بها.
• في تركيا حركة إحتجاجات عارمة ضد تنامي الميل التسلّطي لحكومة رجب طيب أردوغان وحزبه، ومن أجل تصحيح مسار الديموقراطية التركية. هل يمكن الحراك الجاري في تركيا اليوم ان يسهم في تصحيح مسار "الربيع العربي"؟
- ما يحدث في تركيا اليوم سيترك بلا شك أثراً على بلدان المنطقة. في تركيا راحت قمعية الحكومة، خصوصاً منذ العام 2005، تتزايد. كما أسهم التحول نحو أسلمة الدولة والمجتمع في رفع مستوى تسلّطها. هناك ناشطون ومنظمات مستقلة يرفضون التسلّط. لكن، لا يزال لدى أردوغان دعم فعلي من غالبية شعبية كبيرة. وفي المقابل، تتنامى قوة شريحة مدينية رافضة للمنحى الذي يسعى أردوغان إلى تكريسه. ساحة تقسيم هي فضاء الحرية المشترك الأخير الذي لا يزال متاحاً للناس في اسطنبول. لا يريدون للناس ان يكون لديهم فضاءاً حراً ومستقلاً يمكنهم من الإجتماع. وهو، على كل حال، أمر يشغل بال كل المستبدّين. في العالم العربي، الوضع مختلف. فتركيا خلال الأعوام العشرين الأخيرة إبتعدت إلى حد كبير عن الحكم العسكري والتسلطي، وقد نجحت حكومة أردوغان في سنواتها الأولى في الحد من سلطة العسكر، وفي رفع مستوى حرية التعبير، ثم إنتقلت غداة العام 2005 نحو الإعتداء على المجال العام. في العالم العربي لا شيء من ذلك حصل، لذا إندلع الربيع العربي. ساحة تقسيم مهمة جداً، والناس فيها شجعان جداً.
• لماذا وقف لبنان خارج لوحة الربيع العربي، وبقي عاجزاً عن إنتاج دينامياته الداخلية للتغيير؟ وهل للنموذج الإجتماعي القائم فيه دور في ذلك؟
- لبنان ليس بلداً محصناً ضد الربيع. لديه مشاكل خاصة، طائفية. وهي مشاكل جدية، إذ عاشت البلاد حرباً أهلية إستمرت حوالي 15 عاماً. وهناك أزمة جواره أيضاً التي تضاف إلى أزمته الداخلية. فلبنان محاط بقوى قوية جداً، وتنعكس عليه القضية الفلسطينية أيضاً. الدول العربية الأخرى لم تتعرض للغزو، اما لبنان فتعرض للغزو 5 مرات، وهو مهدّد اليوم جدياً من قبل إسرائيل. هذا فيما اوضاع كل من مصر وتونس مختلفة. في لبنان من الصعب ان تنبعث المواضيع الإجتماعية، والدولة فيه ضعيفة بسبب البنية الطائفية للمجتمع، ما يتأدى عنه إضعاف للنشاط الإجتماعي. ذاك ان الفعل الإجتماعي يجد صعوبة في تجاوز الإنقسامات الطائفية. علماً ان هذا النوع من الإنقسامات كان عاملاً أساسياً في إضعاف الحراك الإجتماعي في الغرب أيضاً. في اميركا كان الإنقسام حاداً بين السود والبيض، وفي اميركا اللاتينية كانت الإنقسامات عميقة أيضاً، لكن جرى التغلب عليها. الحركة العمالية الأميركية، تمثيلاً لا حصراً، ووجهت بصراعات عرقية وجندرية وقد تم التغلب عليها. كخلاصة، يمكن القول أن الإنقسامات الطائفية عائق أمام التقدم، ولكن التغيير ليس مستحيلاً.
• كيف سينعكس تدخل الاطراف اللبنانيين في سوريا، حزب الله خصوصاً، على الوضع الداخلي اللبناني؟
- أعتقد ان الحواجز أمام التغيير الإجتماعي – الإقتصادي في لبنان ستتعزز بفعل تدخل أطراف لبنانيين في سوريا. تدخل حزب الله سيزيد الحواجز بين الطوائف، وسيضع لبنان في موقع خطير جداً. إذ سيتعرض لخطر ما يجري في سوريا، فضلاً عما يتعرض له من خطر شديد من إسرائيل. القادة الإسرائيليون قالوا انهم لن يسمحوا بوصول أسلحة متطورة لحزب الله. اليوم يقولون أنهم سيدمرون ترسانة الحزب الصاروخية خلال يومين، بتعبير أدق عبر تدمير البلاد. إذا قرّرت إسرائيل ضرب إيران اول ما ستفعله هو تدمير قدرات حزب الله.
في الواقع، يحتاج الكيان اللبناني إلى معجزة كي ينجو من تداعيات الأزمة السورية. فالحرب الأهلية السورية مثل اللبنانية، وأسوأ حتى. البقاء سيكون مع أكلاف عالية جداً. كما ستزيد المشكلة الطائفية من جراء اللاجئين.
• بعد أكثر من عامين على الربيع العربي أين أصبح الدور الغربي، الأميركي خصوصاً؟
- الدور الجوهري للولايات المتحدة أن تتأكد من أن مسار الأمور في المنطقة لن يؤدي إلى ولادة ديموقراطيات فعالة. ستوافق على حكم نخبة رجال الأعمال التي تقبل بالنموذج الاميركي – البريطاني. أما المطالبون بالديموقراطية، وبأن يتولى الرأي العام تحديد السياسات، فهؤلاء مرفوضون.
عشية الثورة المصرية جرى إستطلاع للرأي في مصر. أظهرت نتيجته ان التهديد الرئيسي للمصريين يأتي من أميركا وإسرائيل. في حال صارت مصر ديموقراطية هذه النتيجة ستنعكس في السياسات. الأكيد ان الغرب وأميركا عندما يتكلمون عن الديموقراطية فهم ينافقون. هناك تسويق صادق للديموقراطية من قبل اكاديميين وغيرهم ممن يؤمن بها، وما عدا ذلك لا قيمة له. أميركا تقبل بالديموقراطية فقط عندما لا تؤدي إلى الإعتراض على النموذج السياسي – الإقتصادي السائد.
• ماذا تقول عن المستقبل؟
- الدرس التاريخي الوحيد هنا يقول أنك لا تستطيع التنبؤ بمسار الحركات الإجتماعية. ما أستطيع قوله أن هناك إمكانات كبيرة كامنة.
المصدر : المدن




















0 التعليقات
إرسال تعليق